أن تسير في شوارع القاهرة، وفي فضاءها المديني العام، وعلى إحدى شوارعها الأخطبوطية المرتفعة، فيصدمك سترٌ وحجبٌ صوري، لجزء من جسد مؤنث في فوضى المدينة الدعائية الضوئية، فذلك وإن بدا جديداً في فظاظته؛ إلا أن المراقب لسيرورة الجسد في المجتمع المصري على مدى العقود الماضية يمكنه التنبؤ بذلك، وإن فاجأ البعض.
وهذا الستر لكتف المغنية ونجمة الاستعراض المشهورة على جسر السادس من أكتوبرالقاهري، لابد له أن يذكرنا ببعض المجتمعات التي تأسست بهوسٍ جنسي مقدس، تمظهر حجباً وستراً، وكلها تنويعات على النفي، وصل حدود أن يقاس فيها التعبير عن الحرية ومظاهرها، بأن "يتمكن الرجل من أن يمسك يد زوجته في الشارع"(!!!). تلك بلاد تقوم على طمس التأنيث في المجتمع وقهره ونفيه، مسوغة لذلك بكل إلتواءات النص الديني ضمن ما سماه ألوثسير "غسيلاً أيديولوجياً"، وقد وظفت جميعها لخدمة السلطة.
الجسد البشري ليس كياناً مادياً ذا بنية فيزيولوجية فقط، فالجسد البشري كيانات خطابية، يتم شحنها بدلالات وشحنات متغيرة وغير مستقرة. فالجسد حامل للقيمة الرمزية التي يتم تشكيلها بالهوية الفردية من ناحية وبالبنية المجتمعية وعلاقات القوى فيها، من ناحية أخرى. وبالتالي فالجسد هو المسافة البينية للذات الفردية والذات المجتمعية، وبالتالي يصبح الجسد جزءاً من خطاب الطرفين. إن أي تعريف للخطاب على تعدد تلك التعريفات، نرى أنه تستلزم عضوياً درجة من التعددية في الأطراف وميلاً في القوى إتجاه أحدهم، و يصبح حينها "النص" هو المكون الخطابي المراد التأثير به وفيه، وهو في حالتنا هنا و موضع النقاش: الجسد. مما يستدعي "ترويضاً للجسد" وبلفظ أكثر قرباً للواقع المجتمعي للجسد: "هندسته"، فهو الأساس في الحفاظ على المواجهات، وديناميكية الأدوار والعلاقات الإجتماعية، من حيث موضع السلطة فيها والفرد.
فلننظر مثلاً إلى محاولات السلطات الإخوانية في مصر، لمهاجمة فنون التعبير الجسدي، وماحدث أخيراً في مدرسة الرقص المعاصر، في دار الأوبرا المصرية، على يد وزير الثقافة الإخواني الهوى المعين حديثاً، باعتبار أن فن الرقص هو "فن المرأة" بحسب وصف أحد أعضاء مجلس الشورى المصري. (وهي المحاولة التي تمت بالتوازي مع منح تراخيص للملاهي الليلة والمواخير لمدة 3 سنوات وهو ما يعري إزدواجية نفعية في التناول).
إن خطاب السلطة فيما يتعلق بالدعوة لإغلاق مدرسة الرقص المعاصر ودمجها مع بقية الفنون، باعتبار أن الرقص "فن المرأة"، يدل على سيطرة مفهوم "العقل الأيديولوجي"، و هي إحدى أوجه السيطرة الحداثية، الساعية إلى خلق ما يمكن تسميته بـ"الجسد المعقلن" أيديولوجياً، فالجسد ليس كياناً بيولوجياً مجرداً، إنما يتحدد باحتيازه على "وعي" و"مقصد" و"لغة"، وبالتالي فهو اقل خضوعاً للقوى البيهيمة البيولوجية فيه. وهنا تكون الحاجة لنوع من الغسيل المعرفي الأخلاقي والقيمي في خطاب السلطة، الذي يبني مفهوم "الوعي" و"المقصد" و"اللغة" تبعاً لعقل السلطة ، وخطابها المستحوذ على "القيمة" الإنسانية المطلقة، نظراً لأنها سلطة دينية، وبالتالي تصبح هي مالكة الحق و الصواب والحقيقة المطلقة في الحياة الدنيا، وأن أي خروج عن وعي ومقاصد ولغة تلك السلطة هي عودة عن "العقل" إلى "البهيمية"، ولعل هذا ما قصده المتحدث الإعلامي باسم "حزب الحرية والعدالة" الإخواني الحاكم في مصر، حين قال أن وزير الثقافة يجب أن يدير شؤون الوزارة –الثقافة- من مسجد، وهو ما فيه إستبطان لإزدواجية: المقدس/العقل والمدنس/الجسد.
ولا يقف الأمر عند لحظته تلك، فالنزوع للسيطرة على الجسد في فعله التعبيري الفني هاهنا، يلقي بظلاله على الفن باعتباره عملية تعبيرية حرة من كل ثابت و كل سلطة، منها سلطة العقل والمعرفة بمعناها القبلي (Prior)، وبالتالي فـ"الوعي" و"المقصد" و"اللغة" الفنية، والتي هي جمالية بحتة، على حوار دائم مع الذائقة الجمالية، متجسدة في العمل الفني في شكل منتجه النهائي وأداواته معاً، وفي حالتنا موضع الحديث هاهنا: النص الراقص والجسد الراقص معاً، لا يجب أن تخرج أيا منها عن محددات الخطاب السلطوي للقيمة.
ولعل وصف هذا الفن بـ"فن المرأة" ينبع من قياس ذكوري/فحولي لإزدواجية العقل/الجسد، وهي أولى وأكثر أنماط العنف الثقافي قدماً، و التي أسس لها خطاب الحداثة، حين افسح الجسد المكون من لحم و دم الطريق أمام العقل ليكون مركز الإنشغال، وبالتالي باتت الحاجة لخلق الجسد المعقلن، باسم التقانة حيناً، و باسم الحضارة حيناً آخر، والعقل في الثقافة والدين هو أول التذكير والتفحيل، والقوامة.
إن خطاب العنف الثقافي، الذي ينتج مقولة "فن النساء" الإزدرائية، يحتفي بالجسد المذكر باعتباره تمظهرا للقوة والسلطة والصوابية. وتحول الجدل الثقافي المنطلق من إزدواجية "الجنة و النار" حتمي لإزدواجية "المقدس/المدنس" في "العقل/الجسد". في حالة تكون أقرب للتعريف الأنا بالآخر، فهو لم يقل "فن الجسد" إنما قال "فن المرأة"، وهو عين النزوع الذكوري للثقافة، أو كما عبرت عنه مقولة هيغل: "في المعارك يرتقي الرجل بنفسه فوق الأمومة، التي كان يخصها كلياً في السابق. ففي المعركة يكافح صاعداً نحو قداسته"، و القداسة محض تفحيل؛ لما في ذلك الوصف من عنف مضمر، ليس فقط في البين الجلي منه في حق الإناث من أنه "فن المرأة" ولكن أيضاً فيما لم يذكر منه في حق متعاطين هذا الفن من الذكور، ضمن نفس البنية المجتمعية التي تسيطر عليها الذكورة، وتجعيل من التخنث والتشبه بالأنثى عيباً.
ويظل الفن الذي هو نزوع إنساني تعبيري عن الجمال والذائقة الجمالية للوجود، في الذات و المحيط/الكون خروجاً عن تعريف العقل وقيده المعرفي، بل أيضاً تجاوز له، إذ تتحقق في الفن "اللغة" و"المقصد" و"الوعي"، ذاتياً فردياً و ليس آخروياً جمعياً، و إن تأثر بهم. ولعل أدبيات الخطاب الإسلامي الذائعة الصيت وهي "الأسلمة"، ماهي إلا نمط ذكوري سلطوي، ثقافياً أثبت التاريخ فشلها.
إن هوس السيطرة السلطوي على الجسد، وإن تواتر عبر التاريخ (أنظر دعوة بعض رموز الحركة الإسلامية إلى توحيد الزي، وهي مطبقة في بعض البلدان إنتقائياً جنسوياً أيضاً)، يمكن أن يفسر حالات الإزدواجية والفصام المجتمعي والفردي إذا ماحللنا القوى المؤثرة من جهتين:
1.الفرد : من حيث مفاهيم القيمة (إحترام العقل والجسد) وآلية التعبير عنها الجسد.
2.المجتمع: ظاهر الأمر الإلتزام بالأيقونة الشكلية للحجب والمنع للجسد ونفيه، باعتباره دنساً أو معبراً بهيمياً. (بعض الدول تطمس الوجه الأنثوي إمعاناً في نفيه).
كأن تجد رواج وإنتشار محرمٍ دينيٍ ما بعينه في مجتمع مهووس بتحريمه دينياً. ولعل هذه الفصام يظهر واضحاً في الدلالات الثقافية للملابس في بعض البلدان، إذ نجد ميلاً جسدياً للتجسيد في الملبس مع وجود الحجب والستر بظاهرهما الديني الشكلي، بما ينسف كلية مبدأ "السترة"، وما يظهره ذلك من إزدواجية في الفكرة والقيمة معاً.
كما تفسر ظاهرة التحرش المتفشية في مصر، علاقة "الجسد الفردي" بالسلطة المجتمعية، فقد "إنتقل الجنس من وجود خفي مقيد إلى وجود خطابي" في العقل، (اثبتت الإحصائيات أن الأنثى المحجبة والمنقبة لا تنج من التحرش كما غيرها)، إذ أن حماية الجسد من بهيميته بالحجب والمنع لا ينفي عن العقل الخطابي الديني نزوعه إلى جعل الجسد مادة فقط، وبالتالي فأي فعل تعبيري هنا يتم إستقباله مادياً عن طريق المؤثرات الحسية و ليس الذائقة الجمالية؛ و هنا كانت الدعوة لغلق المدرسة، بحكم أنها مدرسة "فن المرأة".
ولن نخوض في ميل المدارس الرمزية والطبائعية إلى جعل الجسد في كامل وقته وفضائه، معبراً فنياً جمالياً، و وما لتلك المقولات من وجاهة، إلا أننا إذا ملنا للإفتراض الأساس في خطاب الإسلام السياسي ما بعد الثورة، أن ثمة إجماع عبرت عنه صناديق الإنتخابات على القيم الإسلاموية في المجتمع، فعلى السلطة أن تعي أن المشكلة تكمن في إدارة الهوامش وليس في نفيها وتقليصها، تلك الفضاءات الطرفية الهامة في أي مجتمع بين طرف ومركز.
وبالعودة لأهمية الجسد وهوس السلطة به، نشير أنه الخاضع الأكبر للقوى المهيمنة مجتمعياً، كما أنه المقاوم والمتصدي الأهم لها (أنظر دور الثقافات والفنون الشعبية في أفريقيا إبان الفترات الكولونيالية)، وهو ما يفسر كون العقوبات الأكثر قسوة تنفذ علناً، حيث كان المدانون تقطع رؤوسهم وأطرافهم أو يجلدوا بطريقة طقوسية في الفضاء المجتمعي العام، مما يجعل الجسد هدفاً مرئياً لقمع القانون و ثقافة العنف الممأسس.
محاولة حصار الفنون التعبيرية الجسدية، هي معركة ثقافية جمالية، بعيدة كل البعد عن تاريخ "مؤسسة الثقافة المصرية" قبل الثورة، إذ لا يجب أن يجير الدفاع عن المدرسة وما تقدمه إلى الدفاع عن تاريخ مؤسسي من التجهيل الثقافي، كما لا يجب أن يبرر عملية أخونة الثقافة بهذا الشكل المفرط في العنف والعنجهية، إلا أنها معركة فاصلة لأن الثقافة أي ما كانت لا تخضع لتصنيف أو أدلجة ولو باسم الثورة أو الوطن أو الدين.